عندما يصبح أهل الاختصاص عاجزين عن الإجابة والنصح والتصويب، وعندما تنهار أسباب أهليّتهم لتحمّل مسؤوليات عظام، وتسلب منهم الصفات القيّمة التي تمكّنهم من احتلال المكانة وفرض الاحترام، يصبح الإصغاء إليهم شبه مستحيل، بل يتحوّل إلى مجرد سماع لأكاذيب مصوغة صياغة متقنة سرعان ما تترجم تناقضاً واستهتاراً. هذه حال رجال الدين اليوم في العالم أجمع. فقدوا ما لرجل الدين من صفات الرجولة والمصداقية والترفّع والتواضع، واكتسبوا صفات التسلّط والتكبّر والتناقض والكذب.
وما لقساوة كلامي هذا إلا قساوة الواقع مبرراً، فهل أرسل الله الأنبياء أجمعين إلا ليكونوا رحمة للعالمين؟ فإن كان كذلك فلماذا خلفاء الأنبياء هم نقمة للعالمين؟ وهل يا ترى أظهر نبيّ من الأنبياء مظهر تسلّط فتربّع على كرسي مستقبلاً الوفود، ومد يده لتلقّي القبل، وأجهد نفسه في الليل باحثاً ودارساً فلم يستطع الوقوف لاستقبال الناس وزيارتهم؟!
حاشا أن يكون أحد من الأنبياء كذلك، وحاشا أن يقذف أحدهم بأذني تهمة تبرّر جهل رجال الدين وتسلّطهم. ومَن قال، وأي شريعة بررت وأعطت مكانة سلطوية لرجل الدين فرفعته وجعلت له الحق بالحرس والحصانة، فبات التواصل معه يحتاج إلى موعد والتخاطب معه له شكل خاص، كأنما بمقابلته يقابل المرء إلهاً يستوجب منه ذلك الانحناء والتعفّف في التصرف والتكلّم.
وأكثر ما في الأمر سخرية هو سماعك رجال الدين ينتقدون المجتمع ويتحدثون عن جهل الناس وعدم إصغائهم، فيبدون حيرتهم ويأسهم، ويبشرونك بانتهاء العالم كأنما يبررون فشلهم ويعززون موقفهم، لأنهم ببساطة، وبسبب هذا التدهور الذي وصلت إليه المجتمعات في كل أطيافها وألوانها، فقد حاربوا العولمة وما أتت به من تحرّر بتجميد العقل ودوره، وإعلاء مهمة الذاكرة في الانسياب بين المعلومات والمعارف الكثيرة السابقة دونما فسح المجال للتجديد والتطويع والتفسير، فقصّروا عن إيضاح نوع المشكلة، وعجزوا عن حلها، بل زادوها تفاقماً، فتحوّلت من مشكلة عامة تمسّ الدين ككل إلى مشكلة خاصة تهدد ما لرجل الدين من ميزات وخصوصيات. وانصرفوا لجمع المال وتشييد القصور، جاعلين من وظيفة رجل الدين وظيفة استرزاق، وأدرجوها في خانة خيارات الشباب لتمسي مهنة يعتاش منها ممتهنها، وخياراً مناسباً لمَن يسعى خلف حياة مترفة.
فأين أولئك العلماء الربانيون الذين تقشعرّ الأبدان لسماع الحق في أصواتهم، وتدمع الأعين لملامستهم ضمائرنا، وتفرح القلوب لملاقاتهم.
أين أولئك العلماء الذين لا تستطيع إلا أن تبحث عنهم يومياً لتأنس بنصائحهم وترتاح لتردد أبنائك عليهم. أين هم في النهار إذا أطل فأطلوا أو زاروك، وعن أعمالك سألوك، أين هم في الليل إذا أقبل فاستقبلوك ولشكواك أسرّوا وداووك، أين هم للفقير عزاءً بأنفسهم، وتواضع ما يملكون، وأين هم للغني منافساً بعلمهم وقناعتهم وندرة ما يعلمون. أين هم كلمة «لا» إذا ما صدر معيب وفساد، ويداً مصفّقة لكل حق وصلاح...
هم موجودون ولكن قهرتهم مطامع ضعفاء النفوس فسجنوا وهم أحرار، وضعفت القدرة على سماع أصواتهم، لكنهم شوكة لا يكسر رأسها، تؤلم كل حي وصاحب ضمير فتعيده من الهاوية، وتنذر كل فاسق جبار وتعده بالجحيم.