الأخلاق
مقدمة وتساؤل
يقول الرافعي في وحي القلم: لو أنني سئلت أن أجمل فلسفة الدين الاسلامي كلها في لفظين، لقلت: انها ثبات الأخلاق، ولو سئل أكبر فلاسفة الدنيا أن يوجز علاج الانسانية كلها في حرفين لما زاد على القول: انه ثبات الأخلاق، ولو اجتمع كل علماء أوروبا ليدرسوا المدنية الأوروبية، ويحصروا ما يعوزها في كلمتين لقالوا:" ثبات الأخلاق" والآن .. هيا لنرسخ الأخلاق في أنفسنا وفي حياتنا وننميها بقدر ما نستطيع…
ولكن قبل البداية.. لعل هناك تساؤلا.. وهو لم الأخلاق؟ ما الفائدة التي ستعود علينا من دراستنا للأخلاق؟ ما الهدف من دراسة الأخلاق؟
الهدف من دراسة الأخلاق
اننا بمشيئة الله سوف ندرس الأخلاق لأربعة أهداف، وسنعرض هذه الأهداف باستفاضة وتفصيل على قدر المستطاع، وغايتنا من هذا أن نتفق عليها وأن نفهمها.
واني أدعو كل من يقرأ هذه الكلمات في أي مكان.. أن يفتح لي قلبه ويهيء لي نفسه..
الهدف الأول: انها غاية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
ان الهدف الأول من دراستنا للأخلاق أنها غاية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.. أراك مندهشا..!! لا تندهش ولا تتعجب.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". رواه الامام مالك في الحديث 1723.
أراك تقول: هل هذا معقول.. ايكون الهدف الأسمى من بعثة النبي محمد هو ضبط الأخلاق؟
اقرأ الحديث مرة أخرى وفكّر فيه.
وما علاقة هذه بتلك..؟!
اني سائلك سؤالا: لماذا بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟
وللاجابة على هذا السؤال يقول الله تعالى:
{ وما أرسلناك الا رحمة للعالمين} الأنبياء 107.
فكر في هذه الآية.. وتخيّل معي.. لو أن المجتمع يسوده الغش.. يسوده الخداع.. يسوده اضاعة الأمانة.. تسوده الفواحش.. فهل هناك مجتمع فيه رحمة؟
وتخيّل معي.. عائلة.. تسودها الكراهية.. يسودها الحسد.. تسودها الضغينة فأين الرحمة اذن؟
انها والله علاقة وثيقة بين الحديث:" انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وبين الآية:{ وما أرسلناك الا رحمة للعالمين} الأنبياء 107.
واعلم… لا رحمة للعالمين الا بالأخلاق.
هل توافقني على ذلك..!؟
لأظنك تقول الآن:[ أنا أوافق طبعا على حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ولكن العبادات أولى.. فهل تريد أن تقول أن الأخلاق أهم من الصلاة، والصوم، والدعاء والذكر والحج و..].
وأقول لك: نعم ان الأخلاق أهم، لأن كل العبادات هدفها الأسمى هو ضبط الأخلاق.. والا فان العبادات تصبح تمارين رياضية..!!
أرجوك.. افهم ما أقصده على وجهه الصحيح.. ولا تحاول خلط الأمور الفقهية والعقيديةو.. وافهم جوهر الكلمات لا ظاهرها..
فالصلاة تضبط اخلاقك
يقول الله تعالى:{ وأقم الصلاة، ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت 45.
سبحان الله..!! اذن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر.. كانت تمارين رياضية، فلقد صلى ولكن لم يتحسن خلقه.
ويقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:" انما اتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها على خلقي، ولم يبت مصرا على معصيتي، وقطع النهار في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل ورحم الأرملة ورحم المصاب" رواه الزبيدي 3\21 8\352.
أرأيت العلاقة بين العبادة ( الصلاة)، والأخلاق ( التواضع والرحمة) وافهم: ان لم تجعلك صلاتك رحيما بالناس فانها لم تؤت ثمارها كاملة.
وكذلك الصدقة
يقول الله تبارك وتعالى:
{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} التوبة 103.
سبحان الله!! ان هدف الزكاة هو التزكية، ومعنى التزكية هو التربية على حسن الخلق.. أرأيت كيف ان الزكاة هدفها أيضا أخلاقي؟.
فان من يتصدق سيتعلم الرحمة وسيتعلم الكرم.. ان العبادات تصب في الأخلاق.
واليك هذا المعنى اللطيف..
هل سمعت من قبل عن الصدقات الخلاقية؟؟ انها صدقات لها مذاق خاص..!! يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" تبسّمك في وجه أخيك صدقة". اننا بحاجة لفهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من جديد.. اننا نحفظ هذا الحديث عن ظهر قلب، ولكن هل نستشعر معناه..
هيا لا تبخل بالابتسامة وتصدق..!!
واليك تكملة الحديث:" تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأرمك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وارشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وافراغك من دلوك في دلو اخيك صدقة، واماطة الأذى عن الطريق صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر صدقة، وأعظم الصدقة لقمة يضعها الرجل في فم زوجته" رواه الترمذي 1956.
حقا.. ان مفهوم الصدقات قد تغيّر الان.. فانها تؤدي الى احسن الخلاق، ومعناها اللطيف " صدقات أخلاقية" لهو حقا اسم على مسمى…!!
والصوم أيضا..
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" اذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب، فان سابه أحد أو قاتله، فليقل: اني امرؤ صائم" رواه مسلم 2700 وابن ماجه 1691.
سبحان الله!! لقد رأينا كيف أن الهدف من الصلاة كان الأخلاق، وكذلك الصدقة.. والصوم ايضا!! هل وافقتني الآن على أن الأخلاق أهم العبادات أم.. ان كنت ما زلت مترددا فالحج يستبدل ترددك باليقين…
وتصل الأخلاق الى ذروتها في الحج
يقول الله تبارك وتعالى:{ الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} البقرة 197.
ان الحج تدريب قاس عل انضباط الأخلاق.. فانك هناك حريص كل الحرص على حسن الخلق.. فلا تتكلم بصوت عال.. ولا تشتم أحد.. ولا تسب أحدا.. ولا تظلم أحدا،.. بل سبالغ وتزيد في المبالغة لتحسين خلقك.. ستمكث هناك 20 يوما تقريبا.. انضباط يعني انضباط.
كانت هناك قصة مشهورة.. تقول: ان بعض الناس اقترحوا لمنع الزحام أن يحج كل اهل بلد في موسم مختلف. فأهل مصر في رجب، وأهل الشام في شعبان، واهل اليمن في شوال وهكذا، فعرفات موجود طول أيام السنة.. وكان الرد على هؤلاء الناس معروفا طبعا.
فمطلوب أن يتزاحم 3 مليون حاج كل عام.. وفي هذا الزحام الشديد أرني ضبط اخلاقك.. فكلهم يرمون الجمرات في وقت واحد.. وكلهم فوق جبل عرفة في وقت واحد..
وحينها تصل الأخلاق الى ذروتها.. فيا أيها الحاج لقد تدربت على حسن الخلق وسط 3 مليونفي 20 يوما.. أفلا تحسن خلقك مع أبيك وامك، مع زوجتك، مع أقاربك، مع جيرانك.. أعتقد أنك الآن قد ازددت يقينا..!! أليس كذلك..!؟ اسمعك تقول: حقا لا قيمة لصلاة ولا لزكاة ولا لصوم ولا لحج بدون أثر الأخلاق…
أيهما يسبق الاخر..!؟
يظن بعض الناس أن أهم شيء في الدين أن يتعلم الفقه.. وحفظ القرآن و…فالعلم أولا والخلاق ثانيا.. فهل هذا الكلام صحيح..!؟
وأيهما يسبق الآخر: العلم أم الأخلاق؟
يقول الله عز وجل:{ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} البقرة 129. ان هذه الآية وردت على لسان سيدنا ابراهيم، وقد قدم العلم على التزكية ( وهي التربية على حسن الخلق) أي انه قدم العلم على الخلاق.. أراك الآن سعيدا فقد انتصرت..
ان هذه الآية التي ذكرت.. جاءت في القرآن 4 مرات، مرة على لسان سيدنا ابراهيم وثلاث مرات قولا عن الله عز وجل، وكان الترتيب مختلفا.. يقول الله تعالى{ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة} البقرة 151. فقد قدم الله التزكية على العلم.
أي أنه في دعوة سيدنا ابراهيم قدم العلم على التزكية ( وهي آية واحدة)، ولكن حينما جاء القول عن الله تعالى قدم لتزكية ( الخلق) على العلم ( وذلك في 3 آيات)، أراك قد سررت لهذه النتيجة.. لأنك تبحث عن الحقيقة.
اسمع الذين يحفطون القرآن يقولون: وداعا للخطل.. فاذا كانت الآية على لسان سيدنا ابراهيم فالعلم ثم التزكية، واذا كانت قولا عن الله فالتزكية قبل العلم..!!
وكان هذا هو الهدف الأول من دراستنا للأخلاق أن تعلم:" انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"و { وما أرسلناك الا رحمة للعالمين} الأنبياء 107.
الهدف الثاني: معالجة الانفصال الشديد بين الأخلاق والعبادات
ان الهدف الثاني من دراستنا للأخلاق هو معالجة الانفصال الشديد بين الخلاق والعبادات، أو بكلمة أعم وأشمل: معالجة الانفصال الشديد بين الدين والدنيا.. فتجد الانسان داخل المسجد في غاية الانضباط، أما خارج المسجد فهو انسان آخر..
وتجد لسان حاله يقول:" لا يهم فالعبادات على ما يرام، والدين داخل المسجد، أما الحياة فأعمل فيها ما أريد". ان هذا خطأ شديد..
ان هذا الانفصال ليس من الاسلام في شيء، فالاسلام وحدة واحدة… كلّ متكامل لا يتجزأ.. فايّاك أن تكون كالذي يغري الناس بعبادته، ثم يفاجأوا بالأخلاق بعيدة تماما عن الاسلام..
حذار من هذين النموذجين..!!
لقد نتج عن هذا الانفصال الشديد بين الأخلاق والعبادات نوعان من البشر في بلادنا:
النوع الأول: عابد سيء الخلق.
النوع الثاني: حسن الخلق سيء العبادة.
فترى أناسا حريصين على الأمانة.. على الصدق.. ولكنهم لا يصلون.
وترى أناسا حريصين على العبادات.. ولكنهم سيئوا الخلق.
انهما نموذجان مشوهان.. ليسا من الاسلام في شيء، ولذلك فهدفنا من دراسة الأخلاق ايجاد العابد حسن الخلق، فاخشى أن تكون من هذين النموذجين..!!
وزادك الله ايمانا وحسنا في أخلاقك أيها العابد حسن الخلق.
والله لا يؤمن.. والله لا يؤمن.. والله لا يؤمن!!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قالوا: من يا رسول اله؟ قال:" من لا يأمن جاره بوائقه" رواه مسلم 170 و الامام أحمد 2\288.
يالله!! تخيّلي.. التي تنشر الغسيل وهو مبتل، فيتساقط على غسيل جارتها التي تسكن تحتها.. ينطبق عليها هذا الحديث.
وتخيّل.. الذي وضع سيارته أمام جراج جيرانه، واحكم الفرامل وذهب الى بيته ليصلي.. فينطبق عليه هذا الحديث!!
أراك مندهشا، وتقول: لقد ذهب ليصلي.. وأنا أراك قد نسيت.. أما قلنا: اننا لا نريد الفصل بين الأخلاق والعبادات؟
وبالضد تتضح الأشياء
جاء أناس للرسول الله صلى الله عليه وشلم فقالوا: يا رسول الله فلانة تذكر بكثرة صلاتها وصيامها وزكاتها، غير انها تؤذي جيرانها فقال صلى الله عليه وسلم:" هي في النار" ثم ذكر للنبي أن امرأة تذكر من قلة صلاتها وصيامها، وزكاتها غير أنها لا تؤذي جيرانها فقال صلى الله عليه وسلم:" هي في الجنة" رواه الامام احمد 2\440 و الحاكم 4\166 والهيثمي 8\169.
اياك ان تفهم خطأ..!! فهذه ليست دعوة أن تقلل من عبادتك، اننا نريدك أن تفهم فهما دقيقا.. فايّاك أن تصلح جانبا وتترك الآخر، وتذكر أنه لا انفصال بين العبادة والأخلاق.
وكم من هذا الصنف
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" ان شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من يتركه الناس لاتقاء فحشه" رواه البخلري 6054 و 3132 ومسلم 6539.
تجد الأم توصي أولادها: اياكم واللعب أو الاقتراب من أبناء جارتنا، اتقاء لسلاطة لسانها.. وسبحان الله تجدها مرتدية الحجاب.
ولكن ما قيمة الحجاب هنا، ان أخلاق الانسان تفضحه، فان كانت أخلاقه حسنة فيعرف بحسن الخلق، وان اكنت سيئة بدا ذلك جليا، وكم من هذا الصنف الذي يتركه الناس اتقاء لشره!
{ وتوبوا الى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} النور 31.
تخيّل.. هذا يفقدك جزءا من ايمانك..!!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" الايمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا اله الا الله، وأدناها اماطة الأذى عن الطريق" رواه البخاري 9 ومسلم 151، 152 والامام أحمد 2\414.
يالله!! ان اماطة الأذى عن لطريق شعبة من شعب الايمان!! فما رأيك بمن ألقى بقايا الطعام في الطريق، هل تخيّل أن هذا يفقده جزءا من ايمانه!؟
وما رأيك بمن توقظ ابنها في الصباح الباكر، وتقول له: ارم كيس ( … ) في الشارع حتى لا يراك أحد. هل تخيلت أن هذا يفقدها جزءا من ايمانها؟! وما رأيك فيمن ترك عادم سيارته يؤذي من خلفه، ويؤذي المارين في الشارع، ولم يصلح ما بالسيارة من عطل. هل تخيل أن هذا بفقده جزءا من ايمانه؟!.
واليك هذا النموذج الأخلاقي: كان يسير بسيارته في الطريق الصحراوي، فوجد اطارا ملقى في وسط الطريق فأوقف سيارته ونزل منها، ووضع الاطار على جانب الطريق. هنيئا له.. ان ذلك لمن دلائل الايمان.
الحياء والايمان قرناء جميعا
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" الحياء والايمان قرناء جميعا" رواه الهندي 5756 والتبريزي 5093.، وذلك معناه أنه اذا نقص أحدهما نقص الآخر.
فنجد أحدهم ينتظر تحت البيت، ويبدأ باستعمال آلة التنبيه بصوت عال ومستمر، فأين الحياء هنا..؟
وتجد احداهن تمشي وتضحك بأعلى صوتها، فأين الحياء هنا..؟ وقد تكون من المصليات.. وكلن معذرة:" الحياء والايمان قرناء جميعا".
تذكر أننا نقول هذا حتى نعالج الانفصال الشديد بين العبادة والأخلاق، فاذا أردت أن تعرف مدى ايمانك فانظر الى أخلاقك.
يا سيء الخلق.. أنت المفلس
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال:" المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا،فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فان فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" رواه مسلم 6522 والترمذي 2418.
أخشى بعد كل هذا التوضيح ألا تصل الى النتيجة المطلوبة بل لا بد أن تصل الى أن الأخلاق والعبادات لا انفصال بينهما.. واني أدعوك أيها المفلس أن تنفق، أقصد أن تحسن خلقك!!
فيه شفاء للناس
واليك هذه المفاجآت: انها في كتاب الله " القرآن الكريم"، وستجد في هذه المفاجآت ما يشفي صدرك ويطمئن بالك. وستقرأ الآيات وكأنها لأول مرة.
انني والله أعني ما أقوله جيدا واليك التوضيح:
فستجد حينما يتحدث الله عن صفات المؤمنين صفة اخلاقية تأتي وراءها صفة عبادة وهكذا..
وللحديث بقية بحول الله تعالى