عمَر والحرية
كان الجو صحوا، والفراغ موجودا، والسعة حاضرة، وفي مثل هذه الأيام التي تستهيم الناس، جاءت مسابقة ركوب الخيل في مصر بعد الفتح، وكان من بين المتسابقين ابن حاكم مصر عمرو بن العاص.
وبعد جولة أو جولتين فاز بالسباق واحد من الأقباط المغمورين، فاستدار ابن الأمير - كأنما هو جبل شامخ والناس في سفحه رمال - فمال على رأس القبطي وضربه بالسوط وقال له: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟
فغضب والد الغلام القبطي وسافر ومعه ابنه من مصر إلى المدينة المنورة يشكو إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب هتك العدالة والحرية، ويطلب منه إنصاف ولده.
ولما استمع عمر بن الخطاب إلى شكوى الرجل تأثر كثيرا وغضب غضبا شديدا فكتب إلى والي مصر عمرو بن العاص رسالة مختصرة يقول فيها: إذا وصلك خطابي هذا فاحضر إليّ وأحضر ابنك معك !
وحضر عمرو بن العاص ومعه ولده امتثالا لأمر أمير المؤمنين، وعقد عمر بن الخطاب محكمة للطرفين تولاها بنفسه وعندما تأكد له اعتداء ابن والي مصر على الغلام القبطي، أخذ عمر بن الخطاب عصاه وأعطاها للغلام القبطي قائلا له اضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له: أدِرها على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطان أبيه، فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني، ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة: “يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”؟
ما يستحق التسجيل والاعتبار هنا: أن الحرية شيء محوري في الحياة،
لذا فقد جاءت التربية - في عصر النبوة - ووضعت الحرية في صلب الحياة وأطرافها، فأنجبت جيل عمر بن الخطاب الذي ثارت ثائرته حين هتك واحد من الأكرمين حرية غلام في قارة أخرى، لقد انفجرت قوة عمر، لأن قداسة الحرية لا يمكن التغاضي عنها أو التفريط بها.
مظهر التوحيد
لكن لِمَ لهذه الحرية كل هذه المكانة في ديننا؟
لأنه دين القيم العملية، ولأنه دين يبني دعائمه على التفكير، والتفكير لا يستقيم إلا في الأجواء المفتوحة، يقول الدكتور ماجد الكيلاني “إن القدرات العقلية كالنبات، تنمو وتزهر في أجواء الحرية، وهي تموت أو تتشوه في أجواء الكبت الفكري والقهر الإرادي، وحين تموت القدرات العقلية لا يكون هناك إيمان حقيقي، وإنما تسليم وتقليد أعمى أو آبائية ونكران، أو مراءاة ونفاق، وبالتالي لا تتولد الإرادة العازمة.
لذلك يمكن القول - جزما وتأكيدا - إن الحرية في الأمة المسلمة هي فرض عين، وعلى الجميع القيام بها وممارستها وحمايتها من الطغيان الداخلي ومن العدوان الخارجي، وإذا غابت الحرية وقع الإثم على الجميع.
إن الحرية هي مظهر التوحيد، والتوحيد في جوهره حرية، لأنه تحرر من عبودية الأشخاص والأشياء والأفكار الخاطئة أو الخرافية”. ومما يستحق التسجيل أيضا: أن الناس قد شعروا بكرامتهم وإنسانيتهم في ظل الإسلام، حتى إن لطمة يُلطَمها أحدهم بغير حق، يستنكرها ويستقبحها، وقد كانت تقع آلاف مثل هذه الحادثة وما هو أكبر منها في عهد الرومان وغيرهم، فلا يحرك بها أحد رأسًا.
قصة سمرقند
لقد كان عمرو بن العاص أكرم عند عمر بن الخطاب من كثيرين، ومع ذلك فقد أشخصه مع ابنه إلى المدينة المنورة ليحاسبه، وكان بالإمكان أن يسترضي القبطي بكلمتين أو دينارين ذهبيين، لكن عمر الفاروق يريد هنا تقعيد قواعد، ووضع لوائح، وسنّ قوانين.
والنتيجة أن شعوبا بأكملها تسمع عن تلك الحرية وهذه العدالة، فتدخل في دين الله أفواجا.
وتلك ليست حادثة فردية، إنما هي خلق دائم ومستقر، فالحرية مبذولة لكل فرد، ولكل أمة يدخلها الدين الجديد، وفي قصة أهالي سمرقند مع الجيش الإسلامي في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز ما يؤيد ذلك، والقصة مفادها أن أهالي سمرقند كانوا قد عقدوا اتفاقية مع الجيش الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب يقوم الجيش الإسلامي بموجبها بحماية أهالي سمرقند من الإمبراطورية الفارسية مع الاشتراط على الجيش ألا يدخل سمرقند، وبعد عشرات السنين أقدم الجيش الإسلامي وقد تغيرت قيادته وجنوده على دخول سمرقند لعدم علمهم بأمر العهد بين أهالي سمرقند ومن سبقهم من قيادات في عهد عمر بن الخطاب، فاحتج أهل سمرقند وأبرزوا وثيقتهم التاريخية مع عمر بن الخطاب، وذهبوا إلى عمر بن عبد العزيز وأطلعوه على الميثاق المبرم، فامتثل عمر بن عبد العزيز لمضمون الوثيقة ثم أمر الجيش بالخروج من سمرقند التزاما بالعهد معهم، وبدأ الجيش بالانسحاب من سمرقند تنفيذا لمضمون الوثيقة، فما كان من أهل سمرقند عندما لمسوا من المسلمين التزامهم بقيم الإسلام وعدله واحترامهم للمواثيق إلا أن طالبوا الجيش الإسلامي بعدم الانسحاب من بلادهم، حبا لهم ولدينهم، وأعلنوا دخولهم في الإسلام.